إغاثة الملهوف.. أمر ديني وامتثال نبوي

إن أصحاب النجدة والمروءة لا تسمح لهم نفوسهم بالتأخر أو التردد عند رؤية ذوي الحاجات؛ فيتطوعون بإنجاز وقضاء حوائجهم طلبًا للأجر والثواب من الله تعالى. وانظر إلى الشهم الكريم نبي الله موسى عليه السلام، حين فرَّ هاربًا من بطش فرعون، وقد أصابه الإعياء والتعب، فلما ورد ماء مدين ووجد الناس يسقون، وجد امرأتين قد تنحيتا جانبًا تنتظران أن يفرغ الرجال حتى تسقيا، فلما عرف حاجتهما لم ينتظر منهما طلبًا، بل تقدم بنفسه وسقى لهما.

وهكذا أصحاب النجدة والمروءة يندفعون دفعا نحو المكرمات ومنها إغاثة الملهوفين وذوي الحاجات.

من أهم مقاصد الإسلام هو معاونة الغير، وإغاثته وتقديم العون والنصرة لمن يحتاج إليها، فهو سلوك إسلامي أصيل، وخلق رفيع تقتضيه الأخوة الصادقة، وتدفع إليه المروءة ومكارم الأخلاق.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فقد كانت حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خير مثال يحتذى في كل شيء، ولا سيما إغاثة الملهوف، وتقديم العون لكل من يحتاج إليه، حتى لقد عرف بذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فعند نزول الوحي عليه أول مرة رجع إلى خديجة فأخبرها الخبر ثم قال: “لقد خشيت على نفسي”. عندئذ أجابته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: كلا والله! ما يخزيك ا لله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ونوائب الحق هي أساس إغاثة الملهوف، فمعها يفقد الإنسان أدنى مقومات الحياة وتتحول حياته إلى جحيم، وهذا الجحيم ليس ببعيد عن أحد، فمن الممكن أن تدور الدائرة يوماً وتصيب ما لم يعتقد يوماً أن يقع في مثل ما وقع فيه غيره.

وهنا استدلت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها على حفظ الله له، وعدم تضييعه إياه بصنائع المعروف التي كان يصنعها، وبإغاثة الملهوف؛ فالجزاء من جنس العمل.

والإغاثة في الإسلام أصبحت واجبًا ينهض به القادرون، وعملاً من أعمال الخير يتنافس فيه المتنافسون، وأصبح من الحقائق المسلمة عند المسلمين أن: “من كان في حاجة الناس كان الله في حاجته”، كما أخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.

فهي ليست مصطلحاً حديثاً، وإنما كانت جزءاً أصيلاً من أوامر الإسلام، وهي جوهر عقيدة المسلم، أن يهب لنجدة أخيه الإنسان، دون النظر إلى دينه أو لونه أو عرقه، أو عقيدته، فهو إنسان مهما كان، وحتى غير الإنسان، فهذا دين الرحمة، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.

فلم تدخل المرأة النار في قلة صلاة ولا صيام، وإنما في رحمة انتزعت من قلبها، حول كائن حي، بعد أن حمل الله الإنسان الأمانة، وقبلها، بعد أن أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقنا منها.

بل رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين بإغاثة الملهوفين، فحين نهاهم عن الجلوس في الطرقات، إلا إذا أعطوا الطريق حقها، بيَّن لهم أن من حق الطريق: إغاثة الملهوف: “وتعينوا الملهوف، وتهدوا الضال”.

وعند أحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم جلوس في الطريق. قال: “إن كنتم لابد فاعلين فاهدوا السبيل، وردوا السلام، وأغيثوا المظلوم”.

كما أن إغاثة الملهوف صدقة من العبد له أجرها وبرها، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “على كل مسلم صدقة. قالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده ويتصدق. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف.

إن الذي يطلب العون قد يكون مظلومًا أو عاجزًا أو مكروبًا، وفي كل الأحوال فإن إعانته وقضاء حاجته فيها تفريج لكربته، وفي مقابل ذلك تكفل الله لمن فرج كربة الملهوف أن يفرج عنه كربة من كربات يوم القيامة: ” ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة”.

الاعتكاف وإغاثة الملهوف

أمر دين الإسلام المسلمين بالاعتكاف، وهو فعل فعله النبي الكريم، إذ إن للاعتكاف فضلاً عظيمًا وأجرًا كبيرًا، كيف لا وقد فرَّغ المسلم نفسه لربه، وقطع علائقه بالدنيا، لكنَّ الذي يقضي حوائج الناس أعظم من المعتكف أجرًا: “من مشى في حاجة أخيه كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين”.

ولأجل هذا المعنى لما أمر الحسن رضي الله عنه ثابتًا البناني بالمشي في حاجة قال ثابت: إني معتكف. فقال له: يا أعمش! أما تعلم أن مشيك في قضاء حاجة أخيك المسلم خير لك”.

إن إغاثة الملهوف وإجابة المحتاج والسعي في قضاء حوائج الناس لهو دليل على قوة الإيمان وصدق الإخاء. قال عليٌّ:

إن أخاك الحق من كان معك..ومن يضر نفسه لينفعك

ومَنْ إذا ريب زمانٍ صدَّعك..شتَّت فيك شمله ليجمعك

وأخيرًا فإن إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج هي من قبيل شكر الله تعالى على نعمه، وبالشكر تدون النعم، فمن كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب الله عرضها للزوال، نعوذ بالله من زوال نعمه، وتحول عافيته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وجميع صحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.